بقلم: طارق خايف الله[1]
من مظاهر العظمة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ذلكم التكامل الذي ظهر جليا بين شخصية الرسول النبوية وشخصيته البشرية الفطرية، ويكاد الأمر يكون عسيرا جدا على من هو دونه. لكنه ليس بعسير على من اصطفاه الله وشرفه بأن جعله آخر أنبيائه، ومنتهى رسله. وأنا أتملى في ذكرى ولادته عليه السلام، وأملي فكري في واقع المسلمين اليوم، وجدتني أتساءل مع نفسي ماذا ينقص المسلمين اليوم من سيرته الشريفة؟ ما الحاجة الماسة التي يتطلبها واقعنا اليوم بكل تعقيداته؟ لم يكن الجواب سهلا بطبيعة الحال؛ لأن بُعد الشُّقة ما بيننا وبين سيرته -بالنظر إلى تخلف المسلمين وتردي أوضاعهم- كثير كثير، وأسباب ذلك متداخلة متكاثرة، لكن الذي هداني إليه تفكيري وطول تأملي هو حاجتنا اليوم مسلمين وغير مسلمين على اعتبار أن رسالة الإسلام عالمية ودعوة النبي دعوة آدمية، هو أن نقرأ السيرة النبوية باحثين عن بعدها الإنساني، وجوهرها الآدمي، لأنه إحدى الخصائص العامة لهذا الدين التي جاءت السيرة النبوية لتجلي أنواره وتظهر عظمته.
ونحن إذا يمّمنا وجهنا شطر السيرة نجد أن النبي عليه السلام كان دائم التنبيه لصحابته بمقرر هذا الأمر ومذكراً لهم بهذا المبدإ، أقصد؛ مبدأ الإنسانية، فقد كان عليه السلام يشتاط غضبا حينما يرى من صحابته تعاملا يخل بمبدإ إنسانيته، او يعطيه طبيعة فوق طبيعته. تكرر هذا الأمر عندما كَرِه عليه السلام من صحابته قيامهم له كما يُفعل مع الملوك[2]، وحينما نهى الصحابة عن الإكثار من مدحه والغلو في ذلك، كما فعلت النصارى مع عيسى حيث غلت في مدحه فقالت ابن الله[3]..، والقصص في هذا المعنى كثيرة، وفي جميعها تأصيل لمبدإ الإنسانية الذي هو من خصائصه النبوية عليه السلام.
والإنسانية تعني حفظ كرامة الإنسان باعتباره إنسانا كّرمه الباري تعالى، وتعني الرحمة والعطف، والمسامحة واللين، والمساعدة والمعاونة، والصفح والمسامحة، إنها جوهر الأخلاق النبوية الشريفة التي يأوي إليها كل خلق كريم. وهي التي جعلت العدو يؤمن ويوقن قبل الصديق..
القرآن ومذهب الإنسانية
إذا طالعنا المصحف الشريف؛ دستور المسلمين؛ وجامع علومهم؛ وحافظ فكرهم وتصورهم؛ نجده يؤكد في غير ما آية على هذا المبدإ، ويذكر به المؤمنين وغير المؤمنين على السواء، ذلكم أن الإنسانية أصل جامع، وقاعدة مشتركة بين جميع البشر. فمن ذلك مثلا: خطاب لله تعالى للبشرية جمعاء بلفظ جامع كلي ((يا أيها الناس)) ((يا بني آدم))، وعلى هذا النحو يمكن عد ما لا يحصى من الإشارات الدالة على هذا الأمر، منها على سبيل المثال:
- التأكيد على ضعف الإنسان وعجزه. قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ) النساء 2
- التنبيه على محدودية طاقة الإنسان وتدبيره. قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة: 285
- إثبات ضعف الإنسان وارتكابه للخطإ ودعوته إلى الاستغفار. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)﴾ [سورة آل عمران آية 135]
- التأكيد على التكريم الرباني لبني آدم كلهم. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً ) الإسراء: 70
وهكذا، فإن من شأن الكتاب الخالد الخاتم، أن يكون على قدر كبير وواف من احترام مبدإ الإنسانية ليكون جديرا بالاتباع، وحقيقا بالطاعة والامتثال.
من مظاهر إنسانية الرسول عليه السلام
سبقت الإشارة إلى أن كتاب الله تعالى طافح بالمعاني الإنسانية المؤكدة على ضعف الإنسان والمذكرة له بالأصل المشترك بينه وبين جميع البشر، وبمقتضى ذلك فهو مطالب بتمثل إنسانيته في عبادته وتعامله.
هاته الصور الإنسانية جسّدها النبي الكريم خير تجسيد، واصطبغ فكره وسلوكه بها، وتمثلها واقعا في حياته، وفي هذا قالت أمنا عائشة «كان خلقه القرآن»[4]، وكان عليه السلام قرآنا يمشي على الأرض.
فمن مظاهر إنسانية الرسول صلى الله عليه وسلم: توسطه في العبادة أن لم تكن عبادته عليه السلام بالكثيرة الثقيلة ولا بالقليلة المخلة، بل كان عليه السلام يصوم ويفطر، وكان يصلي وينام وكان يتصدق وينفق على أهل بيته كما حكى ذلك أهل السير، وثمرة هذا الأمر هو الاعتراف بإنسانية الرسول، وأنه لا يجب أن يحمل نفسه ما لا يطيق، كما أن الخيرية في العبادة ليست مرهونة لكثرة ولا لقلة، وإنما هو إخلاص وصدق بحسب الطاقة والجهد. وها هو عليه السلام يغضب بعدما أخبرته أمنا عائشة بقدوم الشباب الثلاثة الذين سألوا عن عبادته فتقالُّوها، فقال لهم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[5]. أرادوا الافتخار بكونهم أكثر عبادة وأكثر نسكا، فكان جوابه عليه السلام بأن كل ذلك ليس علامة التقوى والإيمان، ولا دليل الخيرية والإحسان، ولا أن الله تعالى أراد منا ذلك، وأنه سبحانه بريئ ممن فعل ذلك، كما برئ من النصارى الذين ابتدعوا الرهبانية من عندهم واتخذوها سبيلا للتنسك[6].
إنسانيته عليه السلام في التعامل مع أهل بيته:
خير شهادة يحملها الإنسان عن نفسه بحيث تكون صادقة مُصَدَّقة هي شهادة أهل بيته فيه، فها هي ذي أمنا عائشة رضي الله عنها تقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته». [7] وتقول رضي الله عنها في مناسبة أخرى: بأنه عليه السلام ما ضرب أحدا قط من أهل بيته، دعت إلى ذلك حاجة أم لم تدع[8]. وكان عليه السلام يقوم لابنته فاطمة ويجلسها في مجلسه ويقبلها بأبوة حانية وإنسانية لطيفة، وبقلب مشبع باللطف والمحبة صلى الله عليه وسلم[9].
وكيف لا يكون عليه السلام كذلك وهو القائل: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»[10]
فكم من شقاء تعيش فيه البيوتات اليوم بسبب خلوها من الإنسانية؛ إنسانية الزوج مع زوجته وأبنائه، إنسانية الزوجة في تعاملها مع زوجها وبنيها. لقد أصبحت العلاقة الزوجية في واقعنا اليوم علاقة صراع وإثبات ذات على حساب ذات أخرى، والنتيجة خسران الجميع، وتشتت الأسرة. فالإنسانية دواء ناجع لإعادة لم شمل البيوت على هدى من الله وسيرة رسوله الكريم.
إنسانية الرسول في التعامل مع المخطئين والمذنبين:
فئة أخرى من فئات المجتمع تعيش مزيداً من البعد عن الله، والتمادي في العصيان، والتمرد على أحكام الدين وتشريعاته، بسبب الفشل في التعامل معها بتؤدة وإحسان، وإنسانية ولطف وحسن بيان، وبسبب عدم إعطائها الفرصة للتدارك وتصحيح ما فات، فكانت الغلظة والشدة اللتان وجدتهما هاته الفئة ممن فقد الإنسانية وفهم السيرة فهما شديداً سبباً في بعدها ونفورها، وخوفها وتوجسها من قطع الرقاب، وسلب الأموال، والجلد دون تبين أو درءٍ للشبهات..
فأين نحن من إنسانية الرسول التي وسعت الأعرابي
الذي بال في المسجد، فأراد الصحابة أن يأخذوه، فنهى صحابته عن ضربه أو لومه، ووقف
حائلا دون الخلوص إليه، وهو يقول «لا تزرموه[11]»، صلى الله عليه وسلم. أين نحن من هدوئه وحلمه حينما استأذنه شاب لفعل
فاحشة الزنى، فأخذه وشرح له ومسح على قلبه ودعا له، فانصرف الشاب كأن شيئا لم
يكن..
مواقف كثيرة ومشاهد جليلة تظهر بجلاء مذهب الإنسانية التي كان عليه الصلاة والسلام المُجسد الحقيقي لها، والمتمثل لمقتضاها في سلوكه مع كل الناس، مشاهد تؤكد قول ربنا في حق نبيه عليه السلام: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ الأنبياء: 106.
أمام هاته الصورة المثلى لشخصية نبينا عليه
السلام وباستحضار واقعنا اليوم، وما يتطلبه منا ديننا في اللحظة الراهنة، ولنكون
بحق أمة شاهدة على الناس، فإننا نحتاج آكد ما نحتاج إلى أن نقتفيَ سيرة نبينا في
جانبها الإنساني، ونُرِيَ العالم معنى أن تكون إنسانا بحق، إنسانا؛ ليس مع بني
جنسك أو مع من تجمعك به مصالح وغرائز كما في المذهب المادي الغربي، وإنما إنسانا
خلقه الله من مادة واحدة ومن أصل واحد، وكرمه بناء على هذا الأصل السماوي المشترك.
والحمد لله رب العالمين
[1] : أستاذ باحث في العقيدة والفكر الإسلامي
[3] : أخرجه البخاري في
صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ
مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
[4] : أخرج مسلم في صحيحه
من طريق قتادة، عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر [وفيه] فقلت: يا أم
المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ
القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
[5] : أخرجه البخاري ومسلم
من حديث أنس بن مالك
[6] :
قال تعالى:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[سورة الحديد آية 26]
[7] : الحديث في مسند الإمام أحمد
[8] : الحديث
أخرجه مسلم في صحيح من حديث أمنا عائشة قالت: ما ضربَ رسولُ
اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خادمًا لَه ولا امرأةً ولا ضربَ بيدِهِ شيئًا
[9] : تقول عائشة رضي الله عنها: " «ما رأيت
أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة. وكانت إذا
دخلت عليه، قام إليها، فقبّلها، ورحب بها، وكذلك كانت هي تصنع به». (رواه
مسلم).
[10] : رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة
[11] : لا تقطعوا عليه بولته