وبعد
الجلسة الافتتاحية برئاسة الدكتور حميد العيساتي، التي انصبت مداخلاتها في
إبراز قيمة هذه الندوة وسياقها الزماني، والجهود المبذولة لإنجاحها... انطلقت
الجلسة العلمية الأولى، التي ترأسها الدكتور نجيب العماري بمداخلته الدكتور
إسماعيل الحسني الموسومة بـ:"نظرات في التربية على القيم عند أبي إسحاق
الشاطبي" تناول فيها مفهوم التجديد عند الإمام الشاطبي، موضحًا
أنه لا ينفك عن الوعي العلمي المرتكز على الواقع، والذي يقتضي تفاعلاً إيجابيًا مع
المجتمع.
وأبرز
المتدخل أن الشاطبي في مؤلفاته، لاسيما في "الموافقات"، رسّخ ثلاث قيم
مركزية هي: قيمة الفائدة، والاتساق، والتعبد، وهي قيم تمثل نسقًا متكاملاً من
المعاني التي ينبغي أن يستهدفها المتلقي في مجتمعه وفي مختلف مجالات حياته.
وسلط الدكتور الحسني الضوء على قيمة الفائدة باعتبارها قيمة زائدة ينشدها الفقيه في الشريعة لتحقيق النفع العام، مبينًا أن النقص في هذه الفائدة يترتب عليه بالضرورة قصور في تحقيق المنفعة المرجوة. ومن هنا شدد على ضرورة استحضار الفقيه لهذه القيمة في عمله العلمي، داعيًا العلماء إلى مراعاة تفاوت مدارك الناس عند تنزيل الأحكام، بما يتماشى مع ما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة. واختتم مداخلته بالتأكيد على هذه القيمة باعتبارها مبدأ علميًا وعمليًا، ومن القيم الراسخة التي ميزت الممارسة الأصولية عند الإمام الشاطبي ومن جاء بعده من الأعلام.
وفي
المداخلة الثانية المعنونة بـ"معالم التجديد عند الإمام الشاطبي في كتابه
"الموافقات": نموذج التصور العام والمصطلح"، أشار الدكتور
محمد بودادن إلى أن الأقلام التي تناولت فكر الإمام الشاطبي انطلقت من منطلقات
متعددة ومتنوعة، غير أن ما يجمع بينها جميعاً هو الانجذاب إلى المنهج الفريد
والمتنوع الذي سلكه الشاطبي في كتابه "الموافقات". واعتبر الدكتور أن
الطريقة المنهجية التي اعتمدها الشاطبي في بناء هذا الكتاب تمثل في حد ذاتها
مظهراً من مظاهر التجديد العلمي، إذ تميزت عن الأساليب التي دَرَج عليها العلماء
قبله.
وقد
أبرز أن التجديد عند الإمام الشاطبي لم يكن محصوراً في المادة العلمية من حيث
الموضوع فقط، بل تجلى أيضاً في الإبداع المنهجي في العرض والتحليل، واعتماد المنهج
المقاصدي في تناول القضايا الأصولية، بعيداً عن التقليد والجمود. كما أبرز أن
الشاطبي منح المصطلح الأصولي نكهة مقاصدية واضحة، بل وابتكر مصطلحات جديدة من حيث
بنيتها ودلالتها، مما يعكس وعياً علمياً ومنهجياً متقدماً.
وفي المداخلة الثالثة الموسومة بـ"إشكالات الدرس الأصولي ومداخل تجديده عند الإمام الشاطبي"، تناول الدكتور محمد لخضر مظاهر التجديد الأصولي في فكر الشاطبي، مؤكداً أن مسألة تجديد أصول الفقه كانت محل عناية العلماء السابقين واللاحقين، غير أن الإمام الشاطبي تميز بعمق درره وإبداعه في هذا المجال، ما جعل علم الأصول يظهر على يديه بثوب جديد. وقد بيّن الدكتور أن من أبرز دوافع الشاطبي إلى تجديد الدرس الأصولي هو تسرّب "مسائل الفضول" إلى مباحث هذا العلم، أي تلك المسائل الزائدة التي لا تُعين على استخراج الأحكام الشرعية، فدعا الشاطبي إلى إزالتها وتنقية العلم مما لا طائل من ورائه. وسعى الشاطبي إلى معالجة هذه الاختلالات من خلال منهجية دقيقة تقوم على الدفع بمعالم التجديد، وفتح مداخل جديدة لتجاوز الصعوبات المنهجية والموضوعية. وأشاد الدكتور بالخطة التصنيفية البارعة التي أبدعها الشاطبي، إذ جعل منها إطاراً يميز فيه بوضوح بين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات...
أما المداخلة الرابعة الموسومة بـ"الاستقراء
المعنوي والتمكين لمنهجية الفقه الحي عند الإمام الشاطبي"، فقد أبرز فيها الدكتور عبد العلي بطرشي أهمية
الاستقراء المعنوي في المشروع الأصولي للشاطبي، معتبراً أن هذا الأخير لم يجعل من
التقصي مجرد أداة استئناس، بل أداة منهجية تأسيسية في البناء والتأصيل الفقهي.
وأوضح المتدخل أن الشاطبي سلك مساراً منهجياً دقيقاً انطلق فيه من التأصيل لإنتاج
فقه حي ومواكب للواقع. كما أشار إلى أن الشاطبي بتوظيفه للاستقراء المعنوي قد رسّخ
نظرة كلية للدليل الشرعي، الأمر الذي أخرج العقل الفقهي من الجمود وأكسبه مرونة
وتجدداً. وأكد أن هذا المنهج الشاطبي أصبح أساساً تستمد منه التطبيقات الفقهية
المعاصرة أصولها، خاصة حين تتعامل مع قضايا مجتمعية متجددة لا تنفع معها النظرة
التجزيئية أو الجامدة، بل تتطلب مقاربة مقاصدية تراعي الكرامة الإنسانية والمصلحة
العامة.
وفي مداخلته المعنونة بـ"منهج الإمام الشاطبي في
تلقي المعنى من النص الشرعي"، تناول الدكتور محمد بنعمر البعد
اللغوي والمنهجي في تعامل الشاطبي مع النصوص الشرعية، مؤكداً أن أغلب ما صُنف في
علم الأصول قائم على المطالب العربية، وهو ما أقر به الشاطبي نفسه. وبيّن المتدخل
أن الإمام الشاطبي شدد على أهمية المادة اللغوية، لكون فهم النص وتلقي معانيه
واستنباط الأحكام منه متوقفاً على إتقان العربية. وأكد أن الشاطبي عدّ علم النحو
شرطاً ضرورياً لصحة الفتوى، مشدداً على ضرورة اعتبار عرف التخاطب ومعهود الاستعمال
العربي في عملية الإفتاء.
كما أبرز الدكتور بنعمر أن الإمام الشاطبي ألحّ على أهمية
السياق في فهم النص، معتبراً أن الفهم الصحيح لا يمكن أن يتم إلا في ضوء السياق
الكلي للخطاب الشرعي. واعتبر أن من أبرز الأخطاء التي يقع فيها بعض المفتين هو
الاقتصار على نص واحد وإغفال بقية النصوص المتعلقة بالموضوع، مما يُخلّ بالفهم
الصحيح. لذلك، دعا إلى وجوب جمع النصوص الشرعية المتعلقة بالمسألة الواحدة، والنظر
إلى الشريعة ككلٍّ مترابط، يُحتكم فيه إلى القرآن والسنة معاً كصورة متكاملة لا
تتجزأ.
في المداخلة
الختامية لهذه الجلسة العلمية الموسومة بـ"التكامل المعرفي عند أبي إسحاق
الشاطبي: منهج بناء أصول النحو وأصول الفقه نموذجاً"، سلط الدكتور
يوسف الجملي الضوء على البعد التكميلي والتداخلي بين العلوم في مشروع الإمام
الشاطبي، مشيراً إلى أن مبدأ التكامل بين المعارف قد مهد له أئمة كبار، وكان
الشاطبي من أبرز من فعّل هذا التكامل في مشروعه العلمي.
وأكد الدكتور الجملي أن الشاطبي جدد في ربطه بين أصول
العربية وأصول الفقه، مستحضراً مقاصد العرب وتصرفاتهم اللغوية في استدلالاته
الأصولية، مما يعكس وعياً عميقاً بالعلاقة الجدلية بين اللغة والفقه. وبيّن أن
الشاطبي ناقش موضوعات مركزية كالإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب من زوايا
مشتركة بين الأصوليين وعلماء أصول العربية.
ولفت المتدخل النظر إلى أن أصول العربية لم تنل حظاً وافراً من
العناية كما حظيت به أصول الفقه، وهو ما انعكس على قلة الإقبال عليها. غير أن
الشاطبي في مشروعه أبرز الحاجة الملحة لأصول الفقه إلى اللغة العربية، باعتبارها
ركناً أساسياً ومكملاً لا غنى عنه في بناء النظرية الأصولية.
وفي الجلسة العلمية الثانية التي ترأسها
الدكتور الميلود كعواس، افتتحت بالمداخلة الأولى
المعنونة بـ الموافقة في الاستدلال بين الأصول والمقاصد عند أبي إسحاق الشاطبي،
للدكتور محمد ابجطيط، الذي حاول من خلالها تسليط الضوء على جانب مهم من جوانب منهج
الإمام الشاطبي في الاستدلال والاحتجاج، وأوضح أن لهذا الإمام دور مهم في تجديد
الدرس الأصولي، وتطويره بربطه بمقاصد الشريعة الإسلامية وتجسير الهوة بينهما في
الاستدلال وتركيب الأدلة؛ مما يؤكد أنه لا مجال للتفريق بينهما، فهما صنوان
متلازمان في الاستدلال والتطبيق، والتنزيل.
تلاه مداخلات أخرى جاءت في سياق إبراز معالم التجديد لدى
هذا الإمام، فقد تناول الدكتور محمد السقالي جهود الشاطبي في تجديد التنظير
الأصولي لمسلك تحقيق المناط وأثرها في سلامة التنزيل للأحكام الشرعية، وتناولت
الأستاذة سعاد الفيلالي تجديد مصطلح المباح عند الشاطبي ودوره في البناء العمراني،
وتناول الدكتور الحسن ليتيم: المنهج النقدي عند أبي إسحاق الشاطبي وأثره التجديدي:
مراعاة الخلاف أنموذجا، قبل أن تأتي باقي المداخلات في هذه الجلسة التي اهتمت
بتوظيف مسائل علوم القرآن في الاجتهاد وتنزيل الأحكام، وهو الشق الذي اهتم به
الأستاذين: نجيب العماري، وبلال البراق.
أما الجلسة
الثالثة برئاسة الدكتور علي مزيان فقد تطرقت إلى جانب مهم من جوانب
التجديد عند الإمام الشاطبي، وهو ربط مباحث أصول الفقه ومصطلحاته بمحيط الشاطبي،
وما كان يعيشه من سياقات فكرية، وفي هذا السياق جاء الحديث عن مقاربة فهم منهجه في
مبحث علاقة السبب بالمسبب وتعليل أفعال الله تعالى في حل بعض الإشكالات المعرفية
والمنهجية لدى بعض الملحدين المعاصرين، تناوله الأستاذ زكرياء زغلي، وهي
بحوث تقدم لنا إضاءات منهجية ومعرفية لمواصلة البحث فيما استجد في عصرنا من قضايا
اختل فيها نظام التصور والسلوك، وفسدت فيها الفطر السليمة لدى أهلها، لا سيما في
بعض القضايا المرتبطة بالمقاصد وبمنهج الشاطبي فيها، وهذا ما جاء في البحث الموالي
للأستاذة شروق راقد الموسوم ب: إشكالية تجديد علم الأخلاق وتقويم السلوك في العصر
الرقمي من خلال المنهج الإصلاحي عند الشاطبي، وقضية تأويلات الحداثيين لنظرية
المقاصد عند الإمام الشاطبي، قبل الختم بمداخلة الدكتور الحسن قايدة التي تحدث
فيها عن أنموذج من فتاوى الشاطبي وأثرها في تجديد علم التدريس.
أما الجلسة العلمية الرابعة الأخيرة فقد ترأسها الدكتور محمد على الدراوي، وتناوب على مداخلاتها ثلة من الأساتذة الأفاضل ( د. محمد كنفودي، د. محمد الريفي، د. محمدشقرون، د. علي محجوبي، ذ. عبد الواحد ابجطيط)، حيث اهتمت بالعلوم اللغوية عند الإمام الشاطبي ودورها في فهم الخطاب الشرعي؛ استقراء واستدلالا واحتجاجا...وهي بحوث أبانت عن أوجه الصلة بين علوم اللغة العربية ومقاصد الشريعة الإسلامية وبيان أحكامها.
هذا قبل الوصول إلى الجلسة الختامية برئاسة الدكتور سعيد امختاري، التي اختتمت بقراءة التوصيات وتوزيع الشواهد على الأساتذة المشاركين، وعلى الطلبة الباحثين، والختم بالدعاء الصالح من قبل فضيلة الأستاذ عبد الهادي درعاوي.