من اليقينيات العقدية لدى الإنسان المسلم أن أول ما نزل من كلام الله تعالى على الرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الآيات الخمس من سورة العلق }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ (العلق:1-5)

ومن لطائف حكمة الله أن أول ما خلقه هو القلم، وأول ما أمر به رسوله الكريم القراءة، فقد أخرج الترمذي من حديث عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد)[1]

ولكن كثيرا ما يطرح سؤال مضمون القراءة، ماذا سنقرأ؟ وما العلم الذي فرض علينا تعلمه في الحديث النبوي الشريف: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؟ رواه الإمام أحمد في مسنده.

هل يجب علي قراءة القرآن والحديث وما له علاقة بهما فقط؟ وهل تقسيم العلوم قسمين:  شرعية وغير شرعية؟ أو علوم دينية وعلوم دنيوية ؟

إن هذا التقسيم تقسيم صحيح إن قصد به الموضوع والقضايا التي يعالجها هذا الحقل المعرفي أو ذاك، وليس سليما إن أريد به تفضيل فن على آخر وتميز علم على أخيه. أو أريد به التمييز من حيث الحكم الشرعي بأن يقال هذا علم واجب تعلمه لأنه متعلق بنصوص الشرع والآخر تعلمه نافلة؛ لأنه طب أو فلك ...وكل ما يتعلق بشؤون الدنيا.

إن العلم الذي أُمرنا بطلبه والتماسه هو العلم الذي ينفع الإنسان في دينه ودنياه؛ العلم الديني والعلم المدني، وليس كما يروج له البعض من كون الإسلام شجع على تعلم أمور الشريعة وهمش الحقول المعرفية الأخرى؛ كالطب والمنطق والفلسفة والهندسة والحساب والفلك والجغرافية ... فهذا كذب وافتراء على تاريخ أمة جمعاء لا ينطق به إلا من عمي بصره عن الحق، أو عليه غشاوة الأمية، أو أصابه سوء فهم أو سوء تأويل للنصوص الشرعية عن قصد أو غير قصد. 

وفي ما سيأتي دليل على ما سبق:

أولا: الناظر في الآية ( اقرأ باسم ربك ...اقرأ وربك الأكرم ) يجد فعل الأمر (اقرأ) المكرر مرتين ولا يجد المفعول به على هذا النحو : اقرأ القرآن  باسم ربك أو اقرأ الحديث وربك الأكرم أو اقرأ علوم الدين أو الشريعة أو غيرها من العبارات التي تؤدي هذا المعنى

وفي حذف المفعول به ـ في تقديرنا  ـ إشارة لوجوب قراءة كل الأجناس المعرفية المفيدة لتنوير العقول والقلوب شرط أن تكون هذه القراءة معتمدة على (باسم ربك) ومستصحبة لمعية ( وربك الأكرم ) لأن طلب العلم فريضة وعبادة ولا تصح العبادة إلا بالإخلاص لله وحده، ومن تعلم علما لغرض زائل، فهو متوعد لا قبل له به يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم.[2]

وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة: رجل شجاع قاتل حتى مات ليقال عنه شجاع  ورجل أعطاه الله القرآن فقرأه ليقال عنه قارئ ورجل تعلم علما وعلمه ليقال عنه عالم ورجل غني أنفق ثروته ليقال عنه جواد سخي كريم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه ثم ألقي في النار[3]

وفي هذا الجمع بين رجل أوتي القرآن فقرأه رياء ورجل أعطي علما فعلمه رياء إشارة صريحة إلى عدم التمييز بين القرآن  ـ وهو رمز العلوم الدينية ــ والعلوم الدنيوية.

وإضافة إلى الشرط السابق ( الإخلاص) يجب  أن تكون هذه القراءة تنشد علما مفيدا للبشرية يحقق له ظروف العيش الكريم، ويسهم في بناء الإنسان والعمران ويضيف لبنات التقدم والرقي ويلامس اهتمامات وطموحات البشرية وليس علما تجريديا يحلق في أبراج عالية ويسافر على أجنحة الخيال أو أن يكون معول تدمير وتخريب للإنسان والعمران البشري كما هو حال كثير من الدول التي أصبحت تهدد سكان العالم بتدمير الكرة الأرضية والإبادة الجماعية بضغطة زر.

وكان قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم يتعوذ من هذا العلم : (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) [4]  وسأل ربه أن يرزقه علما نافعا (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وَارْزُقْنِي علما) [5]

ونجد سيدنا موسى عليه السلام لما هداه الله إلى العبد الصالح سأله أن يسمح بصحبته ليتعلم منه علما راشدا وليس مجرد علم { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[6] (الكهف:  66)

فالعلم إما أن يكون راشدا نافعا وإما أن يكون به سفه وطيش تماما كالمراحل العمرية التي يمر بها ويقطعها الكائن البشري بدءا من الطفولة (وهي مرحلة الطيش والسفه) وانتهاء بحياة الرشد. وقد يظل المرء سفيها مدى الحياة ولو كان عالما.

ومما يزكي هذه الرؤية التي تجعل تعلم العلوم سواسية من حيث الحكم الشرعي الربط الموجود في الآية (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) بين الأمر بالقراءة والخلق. وخلق الانسان من علق.

فمسألة الخلق عامة وخلق الإنسان من علق خاصة موضوع دراسة علم البيولوجيات الذي يبحر في أعماق هذا المخلوق لاستجلاء أسراره وليس موضوع دراسة العلوم الشرعية.

ثانيا:  ليست هناك نصوص صريحة الدلالة والمعنى تمدح أو تفضل علوما وتذم أخرى إلا ما فهم من بعضها بتأويل مرجوح كقوله عليه السلام : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)  متفق عليه أو دعاء الرسول × لابن عباس : ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)

وهل التفقه في الدين منحصر في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة فقط أو يشمل الـتأمل والتفكر في  مخلوقات الله التي لا تنتهي بواسطة مناهج علمية ؟؟

   إن الذي يبدو من خلال النظر والتدبر في أوجه المسألة أن التفقه في الدين عبارة تشمل فهم أوامر الشرع  ونواهيه وتشمل أيضا فهم وإدراك ودراسة شؤون مخلوقاته، بل أحيانا لا يمكن فهم الحكم الشرعي إلا بعد فهم أسرار خلقه كما هو حال كثير من الفتاوى المبنية على خبرة طبية؛ كالإفطار في رمضان لحالات مرضية وقضية أطفال الأنابيب وزرع الأعضاء...

وقد يحصل للمتأمل والناظر في خلق الله من التفقه في الدين والاستبصار والاعتبار وما ينتج عنها من تعظيم للخالق وحبه والخشية منه أضعاف ما يحصل بدراسة نص شرعي ولهذا السبب ـ والعلم لله ـ حصر القرآن الخشية من الله في العلماء وحدهم {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) وهي آية جاءت في ختام حديث الله عن ظواهر كونية صرفة تزرع في قلب الناظر إليها حبا مكسوا بلباس الخشية والتعظيم والإجلال لخالق كل شيء ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها....) (فاطر: 27)

ثالثا: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم  ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن العلماء ولا عن أمراء المسلمين تمييز علم عن آخر وتفضيل معرفة عن أختها، وإنما الذي دون في سجل التاريخ هو إقبال المسلمين على تعلم جميع العلوم والفنون دون تفضيل ولا محاباة لأن العلوم سواسية.

والأحداث التاريخية التي سنتدارسها في المقال اللاحق، تجلي الأمر وتكشف حقيقته أكثر إن شاء الله تعالى.

وبناء على ما سبق نقول:

1 ) إن طلب العلم فريضة وواجب على كل مسلم وهو أول عبادة أوجبها الله علينا لذا وجب استحضار الإخلاص في طلبه والتماسه والحرص على تعلم وتعليم ما يعود بالنفع على البشرية جمعاء حتى تنتشر رحمة الإسلام في العالمين.

1 ) العلوم كلها مطلوب دراستها وتعلمها وإتقانها سواء تعلقت بالحقول الدينية أو بالميادين الدنيوية.

       والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

 

 تم تحريره يوم 17/11/2022 م الموافق 22 ربيع الثاني 1444 هـ 

 محمد بعزاوي 

البريد الإلكتروني: mohammedbouazzaoui32@gmail.com   



[1]   وقال الترمذيهذا حديث حسن صحيح غريب. اهـ. وصححه الطبري في تاريخه من موقع إسلام ويب تاريخ النشر:الخميس 8 ذو الحجة 1443 هـ - 7-7-2022 م رقم الفتوى: 460741

[2]   رواه ابن ماجه، وغيره، وصححه الألباني .موقع لإسلام ويب تاريخ النشر:الخميس 13 ربيع الآخر 1435 هـ - 13-2-2014 مرقم الفتوى: 240205

[3]  رواه مسلم في صحيحه  (1905).من موقع الإسلام سؤال وجواب

[4]   روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه موقع إسلام ويب )تاريخ النشر:25/09/2014التصنيف:جوامع الكلم النبوي

[5]   سنن ابن ماجة كتاب الدعاء باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (حديث رقم: 3833

[6]  سورة الكهف الآية 66

أحدث أقدم

ميزة جدول التنقل