مقدمة

يعتبر القرآن الكريم والسنة المطهرة باعتبارهما وحي من عند الله تعالى وباعتبارهما الأصل الذي يقوم عليه الدين الإسلامي مصدرا للعقيدة والشريعة، كما يعتبران المصدر الموثوق لكل معرفة شرعية ولكل العلوم الشرعية المستمدة منهما لاعتبار الأصل الإبستمولوجي الذي يتفردان به لربانية مصدريهما. لذلك كانت نصوص السنة الصحيحة إلى جانب الكتاب مصدر أصول العقيدة الإسلامية، ومعتمد السلف الصالح في الاستنباط والاستدلال والتقرير لمسائل الاعتقاد وتحريرها.

ومن مصادر العقيدة الإسلامية المتفق عليها:

المطلب الأول: القرآن الكريم

فكتاب الله تعالى هو أصل الدين وعموده، وهو مرجع المسلمين، وعهدتهم في تدينهم وأصل اعتقاداتهم ودستور شريعتهم، فهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظ بحفظه سبحانه حيث قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر 9)، وهو الجامع لعقيدة المسلمين وأصح مرجع ودليل عليها، لأنه كلام الله المعصوم، وأصل استمداد عقيدتهم الصحيحة التي لا فلاح لهم إلا بها، قال تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" (المائدة: 15/16).

كما أن الإيمان بجميع ما جاء في كتاب الله هو مما تكتمل به عقيدة المسلم وتصح، كمال الله سبحانه "يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله" (النساء: 136) أي اعتقدوا جميع ما جاء في القرآن الكريم كمنظومة عقدية يروم القرآن الكريم بنائها في النفوس حتى تزكوا ويكتمل إيمانها بربها. وعليه فإن كتاب الله هو الأصل في التلقي الشرعي عامة، وتلقي مسائل وأحكام العقيدة خاصة، وهو المعيار والحكم في كل شيء، فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا، بعد ما بين أصول العقيدة ومقتضياتها على أكمل وجه بحيث لا يدع مجالا للشك أو الإبهام، إجمالا وتفصيلا متى دعت الضرورة. قال تعالى "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" (النحل 89)، وقال ابن كثير: "قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء"[1]. فهو كتاب هداية للبشرية به أخرج الله الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد وبه أنقذهم تعالى من الضلالة، قال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا هدي كتاب الله وسنتي)[2].

فكتاب الله حجة على الناس أقام عليهم الدليل نقلا وعقلا ودعاهم إلى استخدام عقولهم واستقراء الدلائل الكونية حتي يتبين لهم الحق ويهتدوا إلى خالقهم فأفحم الكفار والمنكرين، وألجم أفواه المغالين والمبتدعين، فأبطل شبهم وسفه عقولهم.

كما أن القرآن الكريم في منهجه الرباني لتحصيل وبناء المعرفة عامة والعقيدة خاصة، استحضر البعد الغائي والمآلي لتلك المعرفة، باعتبارها معرفية ربانية وحيانية قطعية تتميز بالقصدية؛ إذ غايتها هداية الخلق إلى السبيل القويم الذي أساسه معرفة الخالق وتوحيده والإقرار بربوبيته تعالى وإفراده بالعبادة عبر الالتزام بشريعته أمرا ونهيا مما يحقق لهم الاستقامة ويؤهلهم لمقام الاستخلاف وعمارة الأرض وإدراك الشهود الحضاري استنارا بهدايات العقيدة والشريعة، والفوز في الآخرة.

المطلب الثاني: السنـــــة النبويـــــــــة

تعتبر السنة النبوية المطهرة المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي المجمع عليه عند المسلمين، وهي مجموع أقوال وأفعال وتقريرات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى عن نبيه عليه السلام، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى): (النجم 3-4)، وهي القائمة بدورها في التشريع إلى جانب القرآن الكريم ببيان أصوله وقواعده وأحكامه وغاياته وتشريعاته بيانا يمكن المسلم من مراد الله في كتابه، كما أنها أنشأت أحكاما أخرى لا تخرج عن المقاصد والقواعد الكلية في كتاب الله، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب معتمد السلف في الاستدلال على مسائل العقيدة، كما أن السنة المطهرة جاءت بالكثير من مسائل العقيدة التي لا ذكر لها في القرآن كبيانها لكثير من أشراط الساعة وأحوال الموتى في القبور وخروج الإمام المهدي في آخر الزمان وغيره.

وعموما يبقى دور السنة بيان ما في كتاب الله للناس حتى يفهموا مراد الله عقيدة وشريعة وما يطلبه الكتاب من المكلفين من العباد اعتقاده والعمل به قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44) وقوله سبحانه (لتحكم بين لناس بما أراك الله) (النساء: 105) وقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه (ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه)[3]. فقد علمه الله العلم والحكمة حتى يقوم عليه السلام بدوره في بيان الأحكام والعقائد والشريعة والتكاليف للناس، فأغلب القرآن مجمل والسنة مفصلة مبينة.

وأهل السنة والجماعة لا يستدلون بالقرآن فقط، بل معتمدهم كتاب الله وسنة رسوله في الاستنباط والاستدلال، بحيث لا يكتمل دين المسلم إلا بهما وبما جاء فيهما، قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 56)، فالسنة النبوية مصدر استمداد للعقائد وتقريرها إلى جانب القرآن الكريم، فهما الأصلان في الدين وقوامه، والعصمة والهداية والنجاة، والفوز في الاعتصام بهما إذ وجوب التسمك والرجوع إليهما مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وعلى ما سبق، فإن العقيدة الإسلامية أصلها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما صح من الأحاديث النبوية الشريفة، فقد أجمع المسلمون على حجية السنة النبوية المنقولة إلينا بالنقل الصحيح والسند المتصل متضمنا شروط الصحة فهو مصدر تشريعي سواء كان في العقائد أو العبادات أو المعاملات وجب عليهم الأخذ به والعمل بمقتضاه إلزاما وحجة، لقوله قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: 7) وقوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول) (آل عمران: 31)، فقد فرض تعالى طاعته وطاعة رسوله في كل ما جاء عنه (ص) من أمر ونهي وحكم وتشريع، مؤكدا تعالى على حجيتها في التشريع حيث قال: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" (النساء: 80).

المطلب الثالث: الإجمــــــــاع

وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلام، ومعتمد الأمة في الإجماع بالأساس ما أجمع عليه السلف الصالح من الأمة باتفاق، أي ما كان عليه الصحابة والتابعون ومن تبعهم (من الدين والعمل)، فقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)[4].

والإجماع اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أي أمر كان من أمور الدين.[5] وعرف كذلك بكونه "إجماع العلماء المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور واتفاقهم عليه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور، فإن الإجماع لا يكون إلا من أهل الحل والعقد ممن يجتهدون في أحكام الشريعة، ولا يصح أن يكون من عامة الناس، كما يكون المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يصح إجماع غير المسلمين في أمور الشريعة، وكذلك لا ينعقد الإجماع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا حاجة له حينها"[6].    

وعليه فإن الإجماع المعتبر هو إجماع "المجتهدين" في عصر ما "المجمع على إمامتهم" في الدين على أمر أو أمور في الدين عقيدة أو شريعة، فيكون بهذا حجة على الأمة في الأخذ به والعمل بمقتضاه، قال تعالى: "فأجمعوا أمركم" (يونس: 71) فورد لفظ الإجماع في القرآن بهذا المعنى.

وينعقد الإجماع على غير ما هو ثابت أو منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية، كما يقع الإجماع في الأمور الشرعية والعقلية والعرفية (مما لا يتناقض ولا يتعارض مع أصول الشرع وكلياته القطعية ومراده) فإذا وقع بشروطه في أمر ما لزم وكان (حجة على المسلمين ويجب العمل به)[7]، قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا": (النساء: 115)، فدلت الآية في هذا الباب على "وجوب اتباع إجماع المسلمين"، وتحريم مخالفة ما أجمعوا عليه فهو في الآية سبيل الهدى، إذ الأمة لا تجتمع في أمر أو أمور على الضلال ومخالفة شرع الله قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"[8]. كما أكد صلى الله عليه وسلم على وجوب اتباع الجماعة من أهل الاجتهاد والإمامة فيما أجمعوا عليه وأخذوا به في دينهم ومعتقدهم قال عليه السلام "من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"[9]، وقد قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "إذا سئل أحدكم عن شيء فلينظر في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فلينظر في سنة رسول الله، فإن لم يجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون"[10].

ويظهر مما سبق عرضه من النصوص قيام الأدلة على "حجية الإجماع" وأنه من مصادر التشريع الإسلامي المجمع والمتفق عليها بين أهل العلم وأصحاب المذاهب الفقهية والعقدية قاطبة منذ عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم من سلف الأمة وخلفها.

وخلاصة القول، إن الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي وأحد المصادر التشريعية للأحكام والعقائد والقضايا الشرعية عموما بعد كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ملزم لجميع الأمة بعد انعقاده في أمر أو مستجد لجمع كلمة الأمة وحماية بيضتها من الفرقة والنزاعات والاختلاف وخاصة في الدين الذي هو قوام الأمة ومرتكز وحدتها وقوتها وعزها وسبيل نهضتها والطريق الأوحد إلى شهودها الحضاري بين الأمم، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف بين المسلمين في أحاديث لما في ذلك من إضعاف للأمة وصدع وحدتها وافتراق السبل عن الجادة. وقال الشافعي رحمه الله في الرسالة: "وأمر رسول الله على الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين -إن شاء الله- لازم"[11]، فإذا كان الأمر النبوي بلزوم الجماعة فهو في الدين وشريعة أولى وأوجب إذا الفرقة في الدين هي فرقة لمجتمع المسلمين ولوحدة أمتهم، فلا تقوم لهم جماعة إلا باجتماعهم على أمر دينهم وعقيدتهم.

المبحث الرابع: الخصائص والمقومات الإبستمولوجية للعقيدة الإسلامية

المطلب الأول: الربانيـــــة

من أهم الخصائص التي تميز العقيدة الإسلامية ربانية مصدرها، أي أن مصدرها من عند الله تعالى ومنبعها ومنشآها كلام الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، باعتبارهما الأصل الوحياني لها ولكل أحكام الشريعة، ففي كتاب الله "أصولها وقواعدها" الكلية وأحكامها ومقتضياتها، فلا استمداد لأصولها إلا من الوحي (قرآنا وسنة) لما في ذلك من عصمة وحق وهداية، وتعصم الناس عن الانحراف والزلل في فهم عقيدتهم، فهي بذلك الاعتبار الوحياني والإبستمولوجي عين الحق والحقيقة ومنتهى الدقة والصواب لا يخالطها تلبيس ولا توهم ولا خطأ، وهي كذلك أصل الهداية والرشاد والحصن المنيع من الزيغ والانحراف والضلال، بحيث كما هي لم يحدث عليها تغيير ولم يطرأ عليها تبديل ولم يمسها تحريف، محفوظة بحفظ أصولها قال تعلى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9)، كما أنها بهذا الاعتبار سليمة كاملة فمصدرها صاحب الكمال، تفي بكل ما يتصوره ويعتقده الإنسان.                 

المطلب الثاني: الثبوتيــــــــــــــة

وهذه الخصيصة مرجعها ثبات أصول الدين والمعتقد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تغيير فيها ولا تبديل منذ انقطاع الوحي، لا تخضع لمتغير ولا لمتحول في الزمان والمكان والظروف والأحوال بل مستوعبة لها ومسايرة، ومقياسا ومعيارا ثابتا يرجع إليه، لا تقبل زيادة ولا نقصان.

ولا التغير والتبديل، فقد قال صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)[12] أي مردود مرفوض غير مقبول، وهذا يؤيده قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله): (الشورى: 21)، وعلى هذا فكل ما ابتدع في عقيدة المسلمين من أحكام وأقوال ومعتقدات على غير ما في شرع الله فهو رد باطل لا عبرة به، وعليه فإن العقيدة الإسلامية في أصولها ثابتة إلى أن تقوم الساعة، مستقرة في أصول بناءها، ومحفوظة لفظا ومعنى لا يشوبها تبديل ولا يدخلها تلفيق. فمثلا، الاعتقاد في الذات والصفات والأفعال والغيب والوحي والأنبياء وأمور المعاد كلها ثابتة في ذاتها وأصولها كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكما نقل عن الصحابة والتابعون ومن تبعهم والأئمة الأعلام في كل عصر إلى يومنا هذا.

وعموما فالمقصود بالثبات في العقيدة هي مجموع القواعد والأصول والأحكام الثابتة في كتاب الله تعالى التي لا يطرأ عليها تغيير ولا تتأثر بزمان ولا مكان ولا ظروف، ولا يصلها تحريف أو التباس ولا يلحقها باطل أو زيغ. قال تعالى: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) (الأنعام: 57)، فلا تقبل تجديدا ولا تطويرا فهي ثابتة لكونها قطعية في ثبوتها وفي دلالتها، فلا مجال فيها للاجتهاد والتغيير.

فقد أودع الله في أصول الشرع خاصية الثبات التي ترتبط مباشرة بخاصيتي الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان دلالة على ثبوت شرع الله منهجا للناس في الاعتقاد والعمل، فثبوت أحكامه وقطعية ثبوتها دليل على صلاحية شريعته وعقيدته للناس في كل زمان ومكان خالدة لخلود كتاب الله وأمره تعالى.

فالذي يتغير بتغير أحوال الناس وظروف عيشهم ومستجداتهم هو منهجهم وطرقهم في التعامل مع هاته القطعيات الثابتة التي لا نسخ فيها.

المطلب الثالث: الشموليــــــــــــــة

ويقصد به شمولية مسائل وقضايا العقيدة لجوانب شخصية المسلم وكيانه، ولكل مجالات حياته وتواصلاته وتفاعلاته فيما يدركه في عالم الشهادة وما يتصوره ويفكر فيه فيما يخص عالم الغيب، بحيث تضمن القرآن كل الموضوعات والمجالات العقدية التي يحتاجها الإنسان عن ربه ونفسه وعن الكون والحياة والمصير مما تستقيم به حياته وتقوم عليها سعادته في الدنيا والآخرة، باختلاف طبيعته ومقوماته المعرفية والفكرية وتنوع ملكاته وقدراته، وتفاعلاته النفسية والوجدانية.

فالقرآن الكريم يخاطب الطبيعة الإنسانية من كل جوانبها واتجاهاتها واحتياجاتها، في ربط يتناسب ويتوافق مع الفطرة الإنسانية التي تندفع "شعورا وسلوكا وتصورا واستجابة... في شأن العقيدة والمنهج وفي شأن الاستمداد والتلقي، وشأن الموت والحياة وشأن السعي والحركة، وشأن الدنيا والآخرة".[13]

فلم تغفل العقيدة الإسلامية من أمور الاعتقاد شيئا إلا نصت عليه وتناولته بمنهج البناء في النفوس وتزكية القلوب، وبينته وفصلته حتى يتضح جوهره ويكتمل فهمه، فتناولت كل ما يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى ذاتا وصفاتا وأفعالا ومشيئة، وقدمت تصورا متكاملا عن الوجود وحقيقته وبداياته، وفصلت في الكثير مما يتعلق بهذا الكون وحقيقته وسنته وقواميسها ونواميسه، كما أنها فصلت أيما تفسير لحقيقة الإنسان وكينونته وفطرته وأحواله وخصوصياته وكل ما يتصل به ويتعلق به في حياته ماضيه وحاضره ومستقبله ومصيره ومآله ومعاده. وفي هذا يقول د. إبراهيم البريكان إن العقيدة الإسلامية "أحاطت بالإنسان كله من حين ولادته حتى وفاته، بل قبل ولادته، وبعد وفاته، قبل أن يتزوج أبوه وأمه، وحتى يستقر في الجنة أو يدخل النار" عياذا بالله[14].

وخلاصة القول، إن العقيدة الإسلامية منظومة شاملة لأصول ومسائل الاعتقاد السليم، ولقواعده الكلية التي يبنى عليها الإيمان الصحيح، بحيث ترسم للمسلم الطريق القويم في اعتقاده وإيمانه، كما أنها تضم المنهج السليم في كل تصوراته ومعتقداته للحياة والوجود والمعاد في كل أبعادها.

المطلب الرابع: التوقيفيـــــــــــــة

ويقصد بها أنها موقوفة على ما جاء في كتاب الله العزيز، وما صح متنا وسندا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا التوقف فيها على مصدرها الأصلي المنشئ لها ولقواعدها وأصولها وأحكامها، وبالتالي فهي ليست موضعا للاجتهاد والرأي حيث مصادرها توقيفية وحيانية لا دخل للاجتهاد البشري فيها، فغاية الجهد البشري تحتمل الخطأ والصواب، ولا خطأ ولا زلل في دين الله تعالى، "وكذلك أن العقيدة الصحيحة لابد فيها من اليقين الجازم، فلابد أن تكون مصادرها مجزوم بصحتها، وهذا لا يوجد إلا في كتاب الله وما صح "من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"[15].   

فغير كتاب الله وسنة رسوله لا يعتد به كأصل أو مرجع في العقائد، "فإن جميع المصادر الظنية كالقياس والعقل البشري لا يصح أن يكون مصدرا للعقيدة، فمن جعل شيئا منها مصدرا للعقيدة فقد جانب الصواب".[16]  

ومما يؤكد "توقيفية" العقيدة الإسلامية اشتمالها على بعض المسائل والقضايا "الغيبية" في أصولها ومنشئتها كمسألة الوحي ومسألة الروح ومسألة حياة البرزخ والجنة والنار وغيرها مما هو من عالم الغيب الذي لا طاقة لقدرة الإنسان به ولا يدرك بالحواس، فلا نعلم حقيقة ذلك إلا بما أخبر به الشرع وأفصح عنه بالقدر الذي يقدر استيعابه على العقل البشري وتصوره والإيمان به، مما تفرد الله تعالى بعلمه دون غيره، ومما أطلع عليه من يشاء من الأنبياء أو الملائكة المقربون، قال تعالى: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون" (النمل: 65).

وقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول" (الجن: 26).

وقوله تعالى مخبرا نبيه صلى الله عليه وسلم بما مضى في الزمن الغابر "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك..." (آل عمران: 44).

وقوله سبحانه "وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" (آل عمران: 179).      

وقوله عز وجل في تفرده بمفاتح الغيب: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين" (الأنعام: 59).

ومما سبق فإن العقيدة الإسلامية "توقيفية" لأمرين:

·   الأول: أنها أصل الدين وقوامه فلا مجال للتدخل البشري فيها، فالشرع كتابا وسنة نص على أصولها وثوابتها وأحكامها وقطعياتها بما يضمن الفلاح والهداية والاستقامة، ويحصن العبد عن المهالك والانحراف والزيغ والضلال.

·   وثانيهما: اشتمالها على الجزء المختص بعالم الغيب ومسائله وما يقتضيه من إيمان وتسليم على الوجه المرسوم في تصور الشرع على التحديد إذ لا مجال للعقل البشري في إدراك الغيبيات وما استأثر الله بعلمه تعالى أو خص به أحد من خلقه فأطلعه على ما يشاء منه.

المطلب الخامس: الوسطيــــــــــة

الوسطية هي إحدى السمات البارزة لدين الله عقيدة وشريعة، في (الاعتقاد والعبادة والأخلاق والمعاملات)، وهي المنزلة الوسط بين (الغلو والإفراط وبين التقصير والتفريط) منسجمة مع فطرة الإنسان وطبيعته التي خلقه الله عليها، قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (الروم: 30).

ووسطية العقيدة الإسلامية تظهر من خلال قيام أسسها وأصولها الشرعية على اعتبار الفطرة والإدراك البشري (العقل والإستناد إلى هدايات الوحي وسبل رشاده. قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (البقرة: 143)، فهي وسط بين العقل والنقل، فتجمع بين النظر العقلي ونصوص النقل لتكتمل المعرفة الحقة، ووسط بين التقليد الأعمى المعطل للعقل وهداياته وإدراكاته وبين التسليم الساذج الذي يلغي المدركات العقلية والحسية قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (الذاريات: 20-22).

فلما كانت الفطرة البشرية لا سبيل لها في إدراك كل الحقائق  الوجودية والكونية ولا قدرة لها في إدراك حقيقة الغيبيات سددها الله بالوحي الجامع للحقائق القطعية واليقينية للوجود بعالميه الشهودي والغيبي حتى تستقيم هذه الفطرة على الحقائق والقوانين الإلهية والنواميس الكونية في جمع بين الوحي المسطور والكون المنظور، فما لا يستقل العقل بإدراكه والإطلاع على كنهه وحقيقته تولى شرع الله بيانه وتفصيله، فنور العقل بنور شرعه وهدايات وحيه، في انسجام تام بين فطرة المخلوق وشرع الخالق، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون): (الروم: 30).

فعقيدة التوسط والاعتدال هي العقيدة التي ارتضاها الله لعباده فتوسطوا بها بين الأمم، فلم يغلو غلو النصارى بقولهم على الله الأقاويل والباطل ولم يقصروا تقصير اليهود وجفاءهم وتحريفهم وانحرافهم، وضلالهم، يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها"[17]. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام"[18]. ويقول ابن القيم رحمه الله "وأهل السنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل".[19]

وعموما فإن "وسطية العقيدة الإسلامية"، هي السمة البارزة لدين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، إذ العقيدة هي روح الدين وجوهره وأساسه المتين، وعليها قامت شريعة الإسلام التي بدورها اصطبغت بصبغة "الوسط" في كل أحكامها وتشريعاتها ومقتضياتها العملية تبعا لأصول العقيدة وأسسها وأحكامها، ولما بين العقيدة والشريعة، وبين العقل والنقل من: التلازم والترابط والتكامل والانسجام بمنهج قاصد وغائي هدفه تحقيق التوحيد الخالص تحققا في العبد وتحققا بالمعبود ربا واحدا دون سواه حقا وحقيقة.

المصادر والمراجع

  

-         تفسير القرآن الكريم: لاسماعيل بن كثير الدمشقي: (ت: 774هـ).

-         جامع البيان في تفسير القرآن: محمد بن جرير الطبري: (ت 310هـ)

-         تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان: عبد الرحمان السعدي (ت 1376هـ)

-         صحيح البخاري

-         صحيح مسلم

-         مسند احمد

-         مسند أبي شيبة

-         مسند أبي داود

-         الرسالة للإمام الشافعي، (ت: 204هـ).

-         بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)

-         نفائس الأصول في شرع المحصول: شهاب الدين القرافي (ت: 684 هـ).

-         البحر المحيط في أصول الفقه: بدر الدين الزركشي (ت: 794 هـ)

-         المهذب في علم أصول الفقه المقارن: عبد الكريم بن محمد النملة.

-         الوجيز في أصول الفقه: محمد حسن هيتو

-         مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية: د.إبراهيم البريكان.

-         الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: أبو العباس أحمد ابن تيمية (ت: 728هـ)

-         خصائص التصور الإسلامي: للسيد قطب (ت: 1385 هـ).  

 



[1] - عبد الرحمان بن ناصر التميمي السعدي (ت. 1376هـ): تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان: ط: الثانية، مكتبة دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، (1422 ه- 2002م) (بتحقيق: عبد الرحمان بن معلا): (ص: 446) وأبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي: تفسير ابن كثير (ت: 774هـ).

[2] - أخرجه مالك في الموطأ: (899/2) بلاغا – والحاكم: (318). 

[3] - أخرجه ابن أبي شيبة (24330) والإمام أحمد في مسنده (17174) واللفظ له والدارمي (606) وابن ماجة (12).

[4] - أخرجه البخاري في صحيحه(2652) في الشهادات، ومسلم (2533) في فضائل الصحابة، وابن رجب في الجامع: (477/2).

[5] - عبد الكريم بن علي بن محمد النملة (1999): المهذب في علم أصول الفقد المقارن: تحرير لمسائله ودراستها دراسة نظرية تطبيقية: (845/2)- الرياض.

[6] - شهاب الدين القرافي: نفائس الأصول في شرح المحصول، (ص 2534- 2544) ط، 1 ج: 6 بتصرف- وبدر الدين الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه: (ص 279 ج6) بتصرف، ط، الأولى.

[7] - محمد حسن هيتو: الوجيز في أصول الفقه (ص: 241-243 بتصرف) دار المصطفى للنشر، القاهرة، ط: الأولى (2021م) (ص: 241-245 بتصرف).

[8] - رواه بن الملقن في شرح البخاري رقم 350/3.

[9] - رواه أبو داود في سنته، عن أي ذر الغفاري، رقم 4758.

[10] - رواه ابن حجر العسقلاني، في موافقة الخبر الخبر، عن عبد الرحمان بن يزيد بن جابر (119/1)، موقوف صحيح. 

[11] - الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس القريشي الشافي (204هـ): الرسالة: (تح: أحمد محمد شاكر)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان: (دون تاريخ)، (1/403).  

[12] - روته أم المؤمنين عائشة، أخرجه البخاري في صحيحه رقم: 2697 ومسلم في الموطأ رقم 1718.  

[13] - سيد قطب: (ت. 1385هـ)، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ط: الأولى، دار عمار للنشر والتوزيع (2022م) ص: 110 وما بعدها بتصرف).

[14] - انظر تفصيل ذلك في: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم البريكان، دار ابن القيم/ عفان، ط: الثانية، القاهرة، مصر (1414هـ) (ص: 69-77).   

[15] - من مقال بعنوان: خصائص العقيدة الإسلامية للدكتور: عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، المصدر: www.denana.com

[16] - من مقال بعنوان: خصائص العقيدة الإسلامية للدكتور: عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، المصدر: www.denana.com

[17] - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: (ت 10 كـ): جامع البيان في تفسير القرآن، دار جر للطباعة والنشر، (تح: د. عبد الله بن تركي)، ط: الأولى، (1422هـ-2001م): (8/2).

[18] - أبو العباس أحمد بن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: (تح: عبد الرحمان بن سن قائد، دار ابن حزم، بيروت لبنان (2020م)، ط: الثانية: (69/1).

[19] - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية (751هـ)، بدائع الفوائد: (تح: علي بن محمد العمراني، دار ابن حزم بيروت، لبنان، ط: الخامسة: (1440هـ2019م) (180/1).

أحدث أقدم

ميزة جدول التنقل